Sami Nasr نصر سامي  
 
  البيانات 04/05/2024 20 08 16 (UTC)
   
 

 

المحتوى

مجاهل النور-  

مقدّمة كتاب ذاكرة لاتّساع اللّغات صدر 1996

-  موت المعنى وامّحاء الدّلالات:

 مقدّمة كتاب أنهار لأعالي الضّوء صدر سنة 1997.

-  مسرح الحافات الأخيرة:

مقدّمة كتاب السّيرة صدر 2001.

-  في فهم نصوصي تحديدا:

مقدّمة كتاب الحبّ صدر 2007 (بصدد الإعداد).

-  الانبثاق دون أصل:

مقدمة كتاب شتاء السيدة الأولى. (انظرالكتاب الالكتروني).


مقدّمة كتاب ذاكرة لاتّساع اللّغات

 مجاهل النور

محاولا كسر الأسوار جميعا. وصانعا ما استطعت اقدار العالم الذي ادق كل صباح بقدمي  على أحجار اعتابه المعتمة، واشغل الواح نوافذه بالياقوت وبالانهار. هكذا وانا اشغل وقتي بالتفاصيل الصغيرة كالنهوض باكرا لاستقبال النور واعداد الاوراق له ليسقط مليئا بالاطياف وندفات الثلج. هكذا وانا اتوغل في نهار لا حدود له اجدني اكتب للحرية! جناس هو بين الكلمات الكلمة التي تنحت جدران النور وتصقل منحوتات الضوء وبين اليابيع التي تخرج من زرد الحريات. هكذا لا أتخيل إلاّ ما لا أراه  لا أحلم  إلاّ بما لا أعايش لا أعيش إلاّ ما لا يعاش الأسماك تتنزّل في ملوكتي. اتخيل للحظات أن الملكوت نقطة حرف الجيم وان العالم حبل غسيل يحمل خرقات الأسماك ارى اللغة لا تكفي لتسييج نهر الضياء الذي يعبر قلبي! ممتلئا بالنور يلذ لي أن اتواطأ مع اللغات في كل شيء. الغي ما أراه. شيء ما يجعلني اتعامل مع المحسوسات بخوف! وابرر ذلك بزوالها. أحيا فقط الافكار المتواطئة مع الموت. يلذ لي أن اتنصت على الأرواح وان اسمع دبيبها الخارج  توا من أدغال الارض. وهكذا ألغي مما اكتب الاجتماعيات كلها احتفظ منها بماء الطفولات.  اقع فيها على اللظى الكامن في وحشتها. أقع على النهارات الضائعة في اوحالها. وأفكر وكأن الخليقة لم تبدأ. وكان الحاجات ليست متأكدة وكأنني لا تحكمني هذه الأرض. تشدني حبال النور، وهكذا تتساقط الكتابات  صرعي: الأشجار التي تنمو داخل ارحام التشابيه تذبل. الاستعارات تعجز عن تمثيل النور. الانفس تنهض من اغفائها الارضي. وتذهب باتجاه الاقاصي، والمجازات كأنها الاعشاب تلثم  طوب الارض وتتوغل حيث الانساغ اليضاء وتغير جلدها لاستقبال النور.كل شيء يتغير البلاغة تموت. النص الجديد يرفل في بهاء النور. الحساسيات تتغير. دام آخر يحقن قلب اللغة وقلب العالم. ليس من شيء اذن انه النور ينتقم من الظلمات في اصواتنا. اترك اليومي لانه زائل ولأنّه يتكرر ولان شعرياته مستنفذة، ولان النهر الذي يربط قلوبنا إليه نضب تماما حتى لا نكاد نبصر غير الحصى والطوب اليابس! سفح اللغة هو عمقها وهو وسطها لا أفرق بين الموتى والاحياء ولكنني اجرؤ على  الضحك اجد في شابي سندا لاضحك من اخشاب الغاب المتآكلة الصدئة! وأجد في شبابي قوة لأعيد انتاج قول ميشيما عن  اسلافه (الاسلاف، انهم يستريحون في دواخلنا مثل أشواق رائعة). يلذ لي وانا اتسلق أعمدة النور. وأنا أعمد وجهي بمياه نصوص ما وأنا اتردد بين غيابين: غياب الماء عن الكلمات. وغياب الحلم، أن اكتب نصوصا مبللة! وان أحاول السحر.  إنّ اللغة أكثر الألعاب سحرا تتحول عند البعض إلى لعبة واقعية فجة. والقداسة تتحول إلى رحم في السبعين! والكلمات النبية تسقط في الظلمات. ولا شيء! الكآبات تحتل افاقنا، والفطر يحتل حقل الرياحين والضوء ألغي مما اكتب الاجتماعيات كلها واتعالي، اشبه اليابيع، وتماما كالعصافير اهيّئ بيتي من أبسط المكونات: * آلة لا حد لجمالها، هي الة اللغة. * عمق ثقافي يشتغل في رحم النص به ينهض، ومعه يتشاكل، وفيه يشكل عالمه. * ذات لا تخشى الذوبان إذا حلت انوار أخرى في ليل النص! انها الكتابة! الانفتاح على أكثر من بيت. الاستناد إلى أكثر من ريح. اللغو باكثر من لغة. التعلق باكثر من لغة. التعلق باكثر من جد. و الطيش الخالق. نزق هو. نار تتلظى ، إيغال في مسارب مفتوحة على الابديات ، و لا شيئ ربما كنت وجيلي باصابعنا الناحتة النور و بشبابنا و تشبهنا بالاخر ربّما كنا ضوءا في هذا الليل القاسي. اجمالا نحن نحلم بشمس تضيئ العالم! و بامطار تمطر في كل قلوب العشاق. و بشعر يشبهنا و بصباحات تأتي كل صباح و ترتب ادباشنا و تجلس في صوتنا ، و على ا صابعنا تنام.

 **يقول لوران غاسبار مخاطبا الأبدية (لما كففت عن أن تكوني ضوءا كنت دوما تقولين للعصافير بان تحلق في الدم، هناك في كثافة ما لا يرى وفي الأصوات القزحية الرقيقة كانت تلك الكلمة التي أحنت الانتظار "كن"). إجمالا الكتابة هنا أن أكون غامضا و عميقا تماما.. تماما كالنار.

 

مقدّمة كتاب أنهار لأعالي الضّوء

موت المعنى وامّحاء الدّلالات

سأترك أعضائي تورق في الجدب/ وسأترك أثماري تسقط في الظّلمة ناضجة/ وسأبدو ملكا من ملاّك البدء.  ن س (كتاب التّاو)

أريد أن أكون اسما شفّافا، للأشياء الّتي دون ذاكرة.  لوران غاسبار (أرض المطلق)

 

            [ أنهار لأعالي الضّوء. انفتاح على بلاغات لم تدجّن وإقرار بموت المعنى وإمحاء الدّلالات وتصوير لمشاهد الوأد والفجائع. اللغات ستمحي في الظلّ، والحروف ستعود آخر كلّ مساء على صدى الصّرخات العظيمة التي أطلقها الإنسان في الرّيح. والغيم سيفتح أحضانه لأعشابنا الرّخوة ولريحنا العاصف. حالة الأموات ليست مطلقا من همومنا وكذلك حالات الخوف. ونتقدم. نبني بيتا لإيلاف الضّلال. نرتوي من ثدي النّور. نزرع دما آخر في قلب اللّغة وقلب العالم. نزف لصحراء الرّوح أجسادنا النّوريات الضوء، ونحيل الخلاء. وندّعي أنّ جديدا لم تعرفه لغات الأرض سيخرج من بين أصابعنا]

الأنوار لم تكن شيئا منفصلا عن إيراقات الوجد اللاّئط بأسوار النصّ. والعتمات ليست سوى خلفيات زائفة لأرواح المعنى وجداريات الفهم. واللّغة تتقافز منها غزلان الضّوء وتخرج من مرافئها جداء الرّيح وأقراش النّور ووحدها الأفراس المسكونة بالتّطواف واللّذائذ تصهل بين الأسطر والنّقاط وتتقافز من خلال الأحراش وتائيات الوهم ولا شيء. وحدها النّهارات  تنزع  حصارات  صدورها وتمارس مع اللّيل إغواءها الأزلي وفتنتها. ووحدها النّجوم تخرج من هالاتها، هالات المعنى، وتلبس فرائس الطّيور وسحنات الغيم وتحطّ على كتفي. أفجار برؤوس زرق ستمتدّ أفخاذها على سريري الليلي وتتلاوط ! بيت اللّغة لم يعد بيت البيان والبلاغة. شجرات التشابيه الذّابلة، أوراقها تنثر على الأرض البيضاء وتتفتّت وتتآكل باستمرار وتطلع من أصابعها المتعفنّة يرقات الدّود. وجنّات الإستعارت جفّت أنهار الكوثر فيها وغيض الماء على ربواتها وماتت أصوات العصافير وانهدّت قوائم النّور النّوريات وهناك في المهبّ، في مسارب الموت، حيث الهياكل البيض الملأى ببريق الأموات المحزن وروائح المقابر، وأصوات الأمس تتآلف الموجودات/المبصرات/الأشياء مع أسمائها. ويكون أنّ أقفو خطى المستقبل ! فالوهم أيضا حائط من حيطان الواقع!   وحجر من أحجار محارقة. وتخرج المنسيات من خبائها وتمد الأسرار أنوفها الصّغيرة من خلف الكوى. ويكون أن تسقط من الشّجرات ثمرات النّور ويكون أن تعرّش التراكيب وتطرح أعناب العروض تنويعاتها. أسرار كثيرة ستهتك. دنى سيكون على الشّاعر تحريرها من سلطان القدامة والموت.  أساليب كثيرة سيكون من الواجب انقاذها من محارق التّيه. وفتح أسوارها لرطوبة الماء ودفعها نحو نوافذ الأبد. إقامة لا تنتهي في السّفر. وترحالا خطاه التّسآل. ولهذا الفعل، فعل التّحرر، خطورته. لأنّه فعل ابتناء وهدم. نبرات رؤياوية وعوالم كافكاوية ستتشكل. أقمار ستولد وتملآ الفراغات، فراغات الماضي الذي يستريح في دواخلنا كأشواق رائعة. وبهذا الفهم تكون الكتابة مواجهة وانتصارا وإلغاء ورفضا وتوسيعا لذاكرة اللّغة وآفاق التّقبّل. وعصفا بحدود المعنى المعروفة مسبقا. (النصوص المكتوبة قديما) ما نعرفه منها وما نجهله (الهامش/المنسيّ/الغائب/الممنوع/الحامل لأرق الوحدة ومرارات الفقد). لن أجزئ المكنة. أؤمن أن قمرا في أعالي اليمن يضيء أيضا قامات الأطفال بسيدي بوزيد. وأنّ نهرا صغيرا بالمغرب يمكنه أن يبلّل شعر الهلاليات ويطفئ عطش مواشيهم. أؤمن أن المكان واحد وأنّ العالم غرفة بملايين النوافذ. أقرر موت المعنى وبدء تواريخ المحو والفجائع. وبأسى أقرر إماتة الوضوح وإراقة جم الراءات وحمل الصّباح إلى مرقده المسائي المبطن بالصّلوات وروائح القدامة. أرفض ما لأرى. وأرى أنّ مسؤولياتنا لا تقف عند استقبال النصّ وغسل الأقلام وتلوين شفاهها بالأزرق وتوفير الأجساد البضّةّ والأرائك لإسعاد السيّد النص. لسنا نملك حساسيّة العبد لنكون الجسر البدي لأقدامه النوريّة. يأتي النصّ  لأنّنا نريده أن يأتي. لا نقيم له المراسم يسقط مليئا بالأخطاء ومتبرئا من القداسات وحاملات خطيئة الإضاءة. إضافة الأجداث وارتكاب فعل الحبّ وتلويث مساجد القواعد المسطّرة. أقرّر موت المعنى وامّحاء الدّلالات وأفتح بيت النصّ لهواء التعدّد. ومياه الطفولات. وأقف بقوّة لمناصرة الوهم. فهو أكثر واقعية. وأهتف ليست الكتابة إلاّ رضا للمحو. محو الأجناس. ليست إلاّ سماء الانقطاعات.  ألغي وأفكّر أنّ الغابة ليست شجرا فقط! وأنّ الإنسان ليس بشرا فقط. وحده الحجر المرمي على عتبات الوحدة يظلّ قابعا قرب سري الموت. ووحده يظلّ غريبا. أرفض ما أرى وأرى أنّ الكلمات ليست شيئا خالدا. وأنّ الأشكال ليست برودا وأنّ أقمار المعاني ليست شموسا دائمة وأنّ نجوم الأمس ليست خالدة أبد الدّهر... ولهذا أقرر التصدّي لخطر العود إلى جنّة القدامة وكشف مخاطرها ومغالطاتها ومسلماتها وبداهاتها.  وأقف ضدّ سلطانها الوهمي وفرسانها الموتى! وأفكّر بأنّ أمنا اللّغة قادرة وحدها على ترك زوائدها. ولقد فعلت دائما وستظلّ. نهر المعاني سأسمع من خلل الفقرات صدى انكساراته. ووحده بريد الموت سيكون تفسيرا كافيا لما يجري. الرّماد ليس رمادا فقط إنّه أيضا روح شارع يحترق وأكون صبابات. ليس الموت، موت المعنى، متا مجرّدا.. أنّنا نشمّ روائح الموتى. واصوات المخنوقين وتكسّر الأعظم ونرى جسوم الدّود! الكتابة لإذن أفق من المجرّدات. أرفض المغلطات وأؤمن انّ عصفورا واحد لا يكفي.وأنّ عصافير الشّجرة العشرة لا تكفي.. أحلم بكلّ العصافير.. وأفكّر بقدرتها على التحوّل آخر الليل إلى آلهة لممارسة النظرات العصفورية على العالم..الأعمق في الحقيقة. لا سلطة للنّاقد. ليس للأساتذة أيّ سلطان على النصّ. على الناقد ان يتجاوز مقولاته جميعها وأن يمحي ووقتها فقط "يمكن للنقد لأن يسترّد ذاته (...) وأن يتحول بدوره إلى كتابة تأتي كفعل تنام للنصّ المقروء". يجب خلخلة المتداول بالنقد الجذري والمساءلة. وبهذا فقط يصبح فعل حدث الكتابة مشروطا بالقهر، قهر المتعاليات. ليس الناقد رسولا يملك المطلقات ليس بالطبع حكيما ولا عارفا. إن أدواته تهجر بيتها الأول وتودع قداساتها وترحل. وهناك خلف الجداريات والكتابات الخربة تعلن امحاءها وزوالها. وحده النور يتقدّم في اللّحظات المليئة بالموت بقسوة! لا أشعر مطلقا بالنقص. الآخران العظيمان (السّلف المتعدّد  والغرب المتعدّد) أجزاء من ذواتنا. الذات ليست فردية أبدا إنّها مجرّة! الذات ليست فردية أبدا إنّها مجرّة! (نهب للآخرين خطيئة الحضور من ذواتنا ونصوصنا في الصّميم ونعصف باطمئنان وببساطة نفرض عليهم احترامنا ونحاورهم)  لن أكرّس أيّ كتابة نموذجيا. أقف ضدّ التماثيل. أنجز شيئا ليس وثنا، أرشّحه للتحوّل والتّجدّد والهدم.. لا أجيب ولا أكرّر الأسئلة وأسأل باستمرا ر بل أمشي على جسور التسآل في هذه الثّقافة الراكدة. ليس من وظيفة يقوم بها النصّ إلاّ إذا كان إغواء وظيفة، والفتنة والإحتفاء عملا. النص لا عمل له سوى نفسه الفاتنة. يكتبها يزرع في سفوحها الدّم والخطايا يرجع لها ضراوة الذئاب وقدرة المياه وعنف الرّيح والنوء ويعيد لها الطّفولات ويعصف ببنائها. النص يحتفي بالمتاهات يقف على الذّرى. ضاريا وفتيّا ورافضا للإكتمال والموت يقف مواجها ومستشرفا ومتجاوزا وساخرا وحارقا. شيء واحد سيبقى دائم الفتنة ودائم البرق والمطر. إنّه البدء من جديدي البدء من أرض محروقة. والإيمان بغيم الرؤيا السّاقط من ألان الفيض. طبعا سيكون هناك رماد ومحارق وعويل خافت.. وسيكون من الصّعب البدء من جدي، ولكنّ غيمات لا رؤيا التي هطلت لا يمكن أبدا انكار روعتها وبدء آخر لن يكون بالتّأكيذ إلاّ رائعا ! فلأبدأ.

 2) الارتواء من ثدي النّور:

         ضاربا عرض الحائط بما يشدنّي إلى الأرض ولديّ إيمان عميق بأنّني لن أعود للتراب بعد موتي. سأتساقط   شيئا فشيئا. اللّغة ستأتي إلى بيتها الأول إلى التآلف وتعاد مشاهد ما قبل الخلق، الماء سيظلّ منحوتا على سقف الصّحراء لا يتوغّل فيها ولا تتوغّل فيه. وإنّما هي المسافة الغامضة المكتنزة تحافظ على أقصى درجات غموضها وبهائها. ليس من شجرة إذن. وليس من كائنات لانّ العناصر لم تكسّر حبل تآلفها، شيء كالرجّات سيحصل فيما بعد. وفي لحظات ستصل الأمواه المحبوسة إلى أعماق الأرض وسيكسر الهواء سقف العالم. نعم! وستكون الضّوضاء. كائن وحيدا سيظلّ غريبا هو أنا! يداي ستنشغلان بنحت صوت ’خر قادر على الدخول في هذه الضوضاء الكونية وشغل مكان في هذه المتاهة. آله اللّغة وحدها هي السّبيل إلى نحت هذا الصّوت ومن منها ستكون الوظيفة الوحيدة التي أفعلها حاليا هي اختراع اللّغة التي تشبهني اللّغة التي تحافظ على أسرارها مهما كشف وعلى حرارتها مهما كتبت و لا شيء! لا شيء. كثيرا ما تنسرب من العتمة خيالات كثيرة وأرى عطشا يحطّ كطائر خرافيّ على الحقول التي تطلع داخلي وأسمع نقرات الموت على الشباك المغلق وأرى أنياب الغيب الزرق. وأفكر بترك الافكار النمرة (الكتابة) تصل إلى آخر سريان في جسدي ولسانها المشغول بياقوت الموت الأسود يلحس كبدي. أرى أشواكا كثيرة تطلع من فراشي حتى النهر الذي علّقت صورته على الحائط المقابل سيتحول ثعبانا ويلتفّ عليّ وسأصرخ وأصرخ.. يا... وتضيع الصّرخات ولا أفيق! لم يكن حلما إذن. أصدقائي الموتى أصرّوا على منادمتي وسماع صوتي. دودهم يحيا على أمل الوصول إلى كبدي وشفاهي ويحلم بأكل صوتي أيضا. أمّا أنا فجلست وكسّرت النهر المعلّق على الحائط وكنست بقايا الثّعبان الذي تناثر قطعا على أرض الحجرة ومسحت دماءه المختلطة بالسمّ الأسود. وفكّرت بأنّ شيئا واحد هو ضمان عمق الكتابة  وباب خلودها، إنّه الخوف. خوف الموت. فالخوف من الفناء كان دائما الرجّة التي تدفع المركب الصّغير إلى المخاطرة واإنقذاف بعنف في المتاه والعواصف. والشّاعر مطلقا يظلّ يطلّ على شبحه قادما من بعيد. يراه وربّما يكون عاجزا على ملازمته فيظلّ يهرب وتظلّ  الكتابة بعيدة عن العمق ويظلّ يغيب وتظلّ الكتبة تغيب وفي عمر ما عندما يصعب الهروب والغياب على الشّاعر يكتب النص المصهود  بالنار والخارج توّا من أغوار الموت الغامضة الزرقاء وفيه تتكثّف التجربة وتنمو وفيه يتلازم الشاعر وشبحه ويكون العذاب الخالق و يكون للنصّ  أن يضيء العناصر وينحت فجرا على الحجرات الثقال المترسبة في سفح الرّوح ويتوالد الغيم وتتساقط في تألّق على الظلّمات اليابسة أزهارها اليابسة. وهكذا الأطفال سيخرجون عراة ليتبوّلوا على الحجرات المسكونة بالأرواح! الفراشات ستغيّر ألوان النّور وربّما غطّته بأجنحتها الصّغيرة. القمر سينزل كلّ ليلة وينزع ملابسه فيكشف الثوب الازرق عن قمرين وعن جّنتين عن ساحل للصلاة والنجوم ستتحوّل. هذه سريرا. وهذه وسادة. وهذه طاولة. وهذه نافذة وتلك بيتا والأخرى نهرا. النصّ المهود بنار الموت، الرّافض  للتّآلف، المتهدج خارج أسمائه، الواقع على الأسرار والذاّهب إلى الأقاصي، الناحت جسد الألفاظ، والقاهر المعنى، المتلألئ في الضّلال. هذا النصّ وحده هو الذي سيكون على حدّ قول نيتشه مظلما وليليّا ولكنّه يرتوي من ثدي النّور.

زهر المطلقات

 * اللغة نهر يكفي أن نعرف كيف نسمع هديره وأن نحقّق الشروط المواتية لسماعه *  أمثل احدث محاولة للقطيعة مع الأشياء القائمة *  أمثل احدث محاولة للقطيعة مع الأشياء القائمة * انتصار الرغبة هي ثورتي الق ورغباتي لا تقف عند إرضاء الحواس واحتضان المطلقات * أرفض واقعيّة العالم وأتوحّد معه. * أكتب لتمجيد الكائن واستعادة الجنان الضائعة * يحضر الواقع في كتابتي مخلوعا عن واقعيته وسطحيته ونظامه بلغة مخلوعة من عبوديتها وعاديتها واداتيتها، إنّها الألفاظ وقد انعتقت وحرّرت وسمت وتكوّنت، وصارت تعبّر بواسطتي عن عوالمها الأعمق في الحقيقة * حساسيتي تسمح بممارسة الحب مع الحروف والتشابيه والاستعارات، أمس عندما قرأت ايلوار  ورامبو وأدونيس  تأكدت أن لي أبناء في أماكن أخرى بعيدة، سمعت الحروف تنادي : يا أبي .. يا أبي.. يا هوه! * لست معنيا بشيء محدّد من طرق التعبير. ما أفكّر به بسيط: فتح مدائن الصّور والتّرحال إلى الأصقاع والأقاصي. *  لن أصل إلى فكرة نهائية * النهايات عتبات الموت.

 

مقدّمة كتاب السّيرة

من أجل حساسية شعرية جديدة

 (لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب. ومن يتطلب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة. أما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور الساخرة).  الشابي.

(إننا هنا أبناء أرض لن تبيد وماض لن يضيع ومستقبل لن يبدأ وحاضر لن ينقرض..إن عالم الأوابد الذي نحمله بين أيدينا ونراه.. لا يمثلنا. إننا ذاك الشيء الذي لا ينتهي).  هنري ميلر.

(عندما نشرت "مجاهل النور" و"بيت لا يلاف الضلال" أثيرت الكثير من القضايا النظرية والتطبيقية عن طبيعة ما كتبته وعن مشروعيته وحدوده وجدواه ومراجعه وهذه الآراء دفعتني إلى كتابة هذا الجزء الثالث من البيان لتوضيح بعض النقاط التي بـدت غامضة. وهذه الإضافات تأتي دحضا للأوهام المتعلقة بفهم الجزئين الأولين وانفتاحا على آفاق أخرى للقراءة والكتابة)

            نبدأ من الموت تماما كالأرواح. ونعبر حقول الزمان مثل أقمار صغيرة تتساقط في أول نوفمبر على البيوت المسقوفة بالأدعية. نعلن العصيان ونحن نتفجر  حياة وغضبا ونقول للغير. إننا نملك شيئا ونود تجربته. نفتش عن هندسة جديدة متينة وبسيطة ونهزأ بما شاده عصركم.  نهزأ بتلك البيانات الغوطية التي توهم بالعظمة وهي مسوسـة مـن الداخل ومسكونة بالأرضة وروائح الأجداد العطنة. وتلك المعالم المحفورة على الصخر تلك الشاهدة على القدم والأصالة والتجذر نرفع لها معاولنا الصغيرة. وفي هـذا الطواف سنطالع العالم بنص مختلف ولغات مختلفة وحساسية جديـدة. وسـتكون نصوصنا مسرحا  للامعقول و السريالي. وسنكون مسرح الحافات الأخيرة. وسيلتقي فينا العالم بلا معقوليته  ولا جدواه. شيء واحد سيحكم برباط  نوراني جسد نصوصنا. إنه النضارة والجدة والإدهاش. وهذا ما سنؤكده من خلال محاولتنا ملأ الفراغات الكثيرة التي تحيط بحياة الكـائن وآدابه. وبعيدا عن التجريد الرائع الذي أحب ممارسته أبدأ طرق الموضع من خلال محورين:

 1) دحض الأوهام:

         -لا ندعو إلى الانكفاء و الانطواء ولا إلى غلق النوفذ أمام الغير: (نطلع القدر من منابته ونكرره وننوعه ونظلمه ونلاحقه، فلن يحبه أحد مثلنا. ومن أجسادنا نطلع الأبد ونبدأ المعرفة.. وسيغفر لنا القدر كل هذا الحب) الآخر بهذا المعنى ليس نقيضا.  وليس أيضا عدوا. إنه السمي الآخر العظيم للذات. الطرف المنسي الداخل في ذهب الروح. والآخر هذا الملاك السامت سيكون مرهقا للغاية وشاحبا وصوته الأجش متهدلا في وهن. وتحت عيونه الحزينة تنام ظلال داكنة تميل إلى الاحمرار. وجفونه ملتهبة. وصوته الخشبي مسـموعا وهو يتشـقق داخل الموقد. هذا الملاك الصامت سيظل دائما يسكن الدواخل. يستيقظ مبكرا ليبدأ كل صباح شحذ الروح وتأمل الشقوق الطولية التي تحفر في الجدران والرطوبة التي تكسو الألواح الخشبية. ليست الذات فردية. إنها عالم مصغر. لم يستهلك فيه شيء بعد. ولم ينته من إبدالاته وإمكاناته شيء. جميع العلاقات التي أعلنوا موتها مازالت بكرا. وكل الدروب التي أوهمونا بحدودها لم نلحظ فيها قدم إنسي (وجدنا فيها أقدام الأرواح). العالم، إذن، مازال لم يكتشف ولم يؤول ولم نر أبدا أثر الدماء على أحجاره اليابسة. عندما يسألني النقاد عن الآخرين أقول لهم إنهم داخلي وعندما يسألونني عن العالم أجيبهم هذا هو العالم: إنه أنا، انظروا إلى وجهي، إنني مرايا العالم.

        - المعلمون الكبار عاشوا فيما مضى: تركت لهم بابي مفتوحا في الليل مـن المعلمين الكبار الذين يعيشون الآن. وجدتهم أقوى وأصلب. ووجدت أن أعمالهم تحكمها حساسية أخرى من حيث الرؤية والتقنية والادهاش. وهذا الحوار الذي يتم يوميا هو الإمكان الوحيد لتأجيج المحرقة وإيقاد نيران المغايرة والمغايرة هنا ليست عملا إضافيا، إنها تتم في اللغة، وتتم في النبض أيضا. وتهدف إلى تغيير الكائن وإرجاع هنيبة الحروف التي كفت عن التسمية والخلق. لقد آن وقت استسيقاظ النمرة (الكتابة).

        - الانشداد إلى قواعد الصنعة ليس أبدا إهانة لقداسة النص: على الشاعر أن يـتقن وسائله وأن ينشد إلى قواعد الصنعة وأن ينسى أمر الإلهام. وهكذا، سيصنع قصائده كما تسنع الغاية شجرها وكما تصنع رطوبة الجدار العشب وكما يفتح الرسام ألوانه على الغياهب. هذا لأن الانشداد إلى قواعد الصنعة والوقوف على أسرار اللغة وخباياها ليس أمرا مكملا لهالة الالهام. وليس أيضا جسدا إضافيا لإيقاد النار، إنه النار الأولى نفسها والشجرة الأشمل في غابة الإبداع. لست أدعوا إلى الصفوية ولا إلى الإعادة. أدعو فقط إلى بعث قارة الألفاظ من رادها القديم وإطلاق أجنحة العنقاء الأزلية من قمقمها. للشاعر أن يتأمل الأيام. وأن يلمس خزفها الطيني المتروك على عتبات البيت. وأن يشم رائحة الماعز إذ يصعد في أعقاب الليل إلى الأدغال وله أيضا أن يقف على الينابيع وأن يقرأ مكاتيب الأهل وصهيل أفراسها. له أن يفعل أي شيء. شيء واحد عليه أن يوفره، إنه اللغة القادرة على حمل الآباد اللغة القادر على القبض الدائم على الأزمنة الشعرية المتعددة. اللغة التي تنهض  بوظيفة الإبادة والخلق: إبادة القدامة وخلق أفق لغوي آخر. آلته الحدس الطائر بأجنحة المخيال وأفقه مفتوح على تجارب الآخرين وعلى التشوف والاندفاع

        - الشعر لاهوت رمزي: غرفة بملايين النوافذ. وتعريفه بالعودة إلى فاعليته ودوره وأثره تحديد إقتصائي لبعده الأجمل. التحرر التام من كل التحديدات الما قبلية. والقدرة على العصف المستمر والجاهز. ندعو، إذن، إلى إعادة الشعر إلى بيته القمري وتخليصه من الوحل الذي ألصقوه به. ندعو لإطلاقه من سجن الاجتماعيات ( الالتزام / الشهادات  / التوثيق / الاعترافات ...) وتركه لمهمته الأجمل: تجميل بيت الكائن وإطلاق عربات الصور. ولا تخشوا غياب الواقع. فالواقع هو أيضا ما لاترونه حولكم وما لاتفكرون به. ندعو إلى تحرير الفكرة من محمولها الواقعي كما حضر في كتبكم ومن فهمكم للكتابة. ونجرب باستمرار أفكارنا السابحة في بيت العالم. وي الواقع ذلك الطين المغوي الذي أوهمتمونا بسطحيته. وفي الأفق الذي تفتحه الأفكار الحرة على المجاهل. ليس الشعر عملا إنسانيا فقط. إنه أيضا محارق أرواح ومسارح رموز. وبهذا الفهم نتقبل هازئين اتهامنا الرائع بحرق ورقة التوت وكشف البيوت عن خوائها الأبدي وعن يبوسة أرضها وعطالة أصحابها وفقرها الجمالي. نعيد الشعر إلى ينابيعه الأولى. نهيء له الأحصنة النورية ونمجده. ونضع بين يديه أغانينا الحزينة كقطرات قمور مقطرة ونجعله يستمع إلى ارتعاش النغمات التي تسقطها أصابعنا التي تنحت الضوء. نمنحه الفضاء الشفاف المحاط بالبسمات الناعمة. نمنحه كلمات الماء. وعطر الفجر الصاهل في غابات الشرق. نقطر عليه في أول نوفمبر قطرات الروح والشتاء البارد ونضع في سلة أحلامه عناقيد الوجد وخمور الآباد. ووقتها سنرى أقمارا تتلألأ في أديرة الصفحات البيض ونرى أرواحا لاهية في صحراء أعماقنا وسنلحظ ماء ينهل من سقوف بيوتنا الحجرية وستكون قصائدنا مثلنا صغيرة وفاتنة. وسنستطيع فتح الصباح والوقوف باعتداد على ضفافه. نعيد الشعر إلى قداسته. نعينه على قطع المشيمة والخروج من بيت الأهل ونعد له الوليمة. سنضع على المائدة شفتي عروس تقطران شهدا ولسانا من عسل الجبال وثيابا برائحة تستيقظ ريح الشمال وريح الجنوب وجنانا مغلقة وكلمات : هب على الجنات المختومة. قف تحت أطاييها و ادخل فهذه بيوتنا وتلك الأزهار التي تفوح منها روائح الرغبة بيوتنا أيضا. وتلك النجوم التي تهدهدها آراجيح الغيوب. وذلك الفجر السائل على وسائد الأبد وتلك النافورات المنقوعة في ندفات الثلج و دكنة الصباح و أوراق البردي .. كلها بيوتنا. نحن إذن واقعيون بشكل مدهش. نذهب بالبرق إلى آخرة الليل. نأكل القداسات نيئة نترك على الأعشاب الرخوة الورةد كاملة الفتنة ونبدأ فعل التسمية من جديد. فليس صحيحا أن كل شيء مسمى و مكتمل. الحق: أن كل شيء معمى تماما وبحاجة إلى الدماء المسكونة بالتطواف ليتسمى ويكون.

        - من الحمق الادعاء بالقدرة على الاعتماد الكلي على وسائل الشخصية وحدها: الوسائل الشخصية لا تكفي . الاقمار الصغيرة المخبوء ة في ارض الروح. والكنوز المغروسة في دكنات الصدور. والانهار الصابئة المسكونة بالدماء ... كلها  لا تكفي.ربما كانت رائعة . ربما استطاعت لوقت محدد أن تزرع ثمر الإغواء الفاتن. وتطرح أعناب الغموض والجدة والإدهاش. لكنها، وإن أدركت هذا المتعلق الصعب، تظل منقوصة فتلك الأقمار الصغيرة الساكنة في أرض الروح تظل بحاجة إلى أضواء أخرى تأتي من أطراف العالم. وتلك الكنوز المغيبة في دكنات الصباح تظل بحاجة قصوى لكنوز الآخرين وبروقهم ورياحهم وعوالمهم السفلى. ما يكتبه الآخرون هو بدايتنا. وسائلهم الشخصية جزء من شخصيتنا أيضا. ونحن بهذا المعنى لا ننادي بالمحو وخطابنا ليس معنيا بالرفض والتجاوز ومقولات التعيير والقيمة. ما نحن معنيون حقا به هو تطوير وسائلنا والإنفتاح على تجارب الغير. نبدأ من القديم. من دماء الموتى المدفونين في العراء. من اللامرئي الجوال الساكن في كتبهم. من النار الراقدة في تضاعيف جملهم.. نسكن لفترات بيوتهم وندرك أن لنا جذورا مضيئة في التربة وأن في أعماقنا أشياء ليست ملكا لنا. إنها الميراث. نرث قديمهم وقديمنا كله، معلومه وهامشه، نقيم فيه ولكننا نخرج منه خروجنا من بيت الأهل. ونبدأ أيضا من معاصرينا (غربا و شرقا).  ونستفيد من فنونهم كلها (المسرح/السينما/الرسم/الموسيقى) ونستعين بهم لنحمل بيت الكائن. وهكذا نلغي الإعتقاد بقداسة الوسائل الشخصية ونؤكد أن وسائل الآخرين إمكان آخر للإيغال في المغيرة والكشف والعصف بطمأنينة الشاعر وإيمانه بأسلوبه وبطريقه الآمنة في إنتاج المعنى. وانطلاقا من هذا نقاطع أيضا الشعر الذاتي ونقاطع الشاعر الذي لا يقرأ. ديوان الشعر عندنا ليس الشعر التونسي فقط وليس أيضا الشعر العربي. إنه النص المنفتح على هواء التعدد و المنفتح على الآفاق والثقافات، المسثند إلى أكثر من حساسية ومناخ والمتعلق باكثر من جد وبأكثر من أرض، والبادئ من أكثر التجارب طيشا وعصفا بالمستقر والجاهز. نبدأ فتح نصوصنا على الغير. ونندفع بانبهار نحو تلك المسارب المفتوحة على الأبديات. نشعر بالدفء والرضى في أسرة التساؤل والشك.

 2) طلقات الرحمة:

         ثمة رعب يستعمر فينا قلق الكلمات. ثمة موت يسكن أعماق الكائن. ثمة نار باردة تتسقط أخطاء الماضي. وثمة أيضا الأوهام، نعم، الأوهام تلك الفاعلية المولدة التي اكتشفناها في واقعنا. وثمة أيضا ألف اغنية تقض مضجع الليل وتقلم مخالبه.  وثمة أيضا ألف اغنية تقض مضجع الليل وتقلم مخالبه. وثمة  ايقاات الموت. ولكني لن أكتب المراثي الرحيمة.  سأترك ذلك للأموات. وسألهو بالسخرية. وفي الليل عندما ينشغل الآخرون بتشييع الجنازات سأنشغل أنا بالنهايات، بتلك الايام السعيدة. سأكتب نصوصا للاشء و سأغني  في انتظار الكارثة. سأطالع العالم بنصوص مختلفة، بلغة مختلفة، بحساسية جديدة من حيث الرؤية ومن حيث التقنية و من حيث النبرة و المفارقات. و اذا صرخ أحد: ماذا تبقى لكم. سأجيبه بنبرتي الساخرة تلك: تبقت لنا النضارة والإدهاش والجدة. تبقى لنا التقاء العالم على لا معقوليته وعلى عبثيته ولا جدواه. تبقى لنا أن نؤثث مسرح الحافات الأخيرة. إن ما نكتبه هو ثمار الموهب المدهشة. تلك الموهب التي تتغذى باستمرا ر من روافد متعددة. لذلك لم نقنع يوما بتلك اللغة الميتة البكماء المدفونة تحت الصمت منذ سنوات طويلة. ولم نعتمد على الوسائل الشخصية وحدها بل نكتب النص العارف. لا أصرخ مثل غيري جميع الترتيبات مستهلكة ! ولا أفرط في السوداوية. ما أومن به أن جيلا جديدا أعلن العصيان والخروج من دوائر الموت بحثا عن كتابة جديدة تهزأ بالموجود. وهكذا نفكر بترك الشعر لنوره الأعمق ونجره وراءنا إلى الفلسفة وإلى العلم نبعده عن العالم وندعوه إلى العزلة.  ونرى أنه بذلك سيحضر فيه بعمق أكثر. ندعوه إلى البحث الفكري الصارم. وبذلك لن يستمر الشعر صدى للعصر ولا ناقلا لإنفعالات أصحابه. ندفعه إلى اللامبالاة المطلقة بالفائدة. فالجمال يناقض الفائدة مناقضة كلية. إن ما نفكر فيه هو شيء من عبادة الجمال الصافي، ولكنه أيضا إيمان مطلق بالمهارة وبالتقنية التي لا نرى غيرها بقادر على رفع الشعر إلى مرتبته الائقة به. نكره الشعر السهل (الشعر العاطفي) وندعو إلى دخول العلوم الانسانية حقل الشعر. ونلح في البحث عن منابع جديدة نستقي منها مواضيع شعرنا بعد أن نضب النبع العاطفي والشخصي والنبع الإجتماعي والسياسي ونؤكد لا بد من استبدال المنابع بعدما نضب جميع المنابع القديمة. ليس ذلك سهلا. نعم. ولكنه لأساسي علينا أن نستخرج المدهش الذي يغمرنا ويروينا من اليومي التافه ومن الاجتماعي المتغير. علينا أن ننتزع من الحاضر الناحية الملحمية وأن نؤيد الجوهر. علينا من خلال الشعر أن نجعل النفس ترى البهاء الكامن في ليل الكائن وهكذا شيكون الانفعال الشعري نافذة أبدية لما وراء العالم (ذلك العالم الأكمل) وستهجر الصور بيتها الأول (بيت الزينة) لنحت دورها الأجمل (دور الخالق) وبذلك فقط ستنكشف الأعماق عن الأسرار والجواهر. الكتابة  ليست شيئا غائما معلقا في فضاء الرغبة والحدس. وليست أيضا انقذافا في المغايرة والمجهول. اننا نستقر على أرض لا تنطفيء براكينها. ولكننا مع ذلك نفكر بعدة نقاط يمكن أن تعضد سيل الرغبة وفتنة الأقاصيء وهذه أهمها.

1-) مسايرة الإبدالات الأدبية والمعرفية التي حصلت داخل العقل البشري وتفهم أسبابها وتبنى طروحاتها. وإلغاء تلك العطالة الفكرية القاصرة عن إدراك ذلك.

2-) الإنفتاح على الممارسة النصية والمقاربات النظرية والاستفادة القصوي من بمحمل مراحل تطور صناعة الشعر لأن تاريخ الحداثة، ذلك التاريخ الصدامي كان أيضا تاريخ انتقالات ونجاحات كبرى وقراءة ذلك التاريخ قراءة جديدة هو من أوكد ما تتطلبه كتابتنا.

3-) خلق حساسيات جديدة وطرق تعبير فارقة وقيم جمالية مغايرة وذلك أمر طبيعي لأنه لا تكون روح جديدة إلا في جسد جديد لم يسكن أبدا من قبل. ربما كان ما نجربه مشابها لبعض النصوص الأساسية في حركات التحديث. و ربما كانت طروحاتنا أيضا تسفيد من تنظيرات سابقة في الزمان والمكان. كل ذلك لا ننكره وذلك لأننا رافد فمري لهذا الضوء النهاري الراشع الذي يخترق العصور.

4-) وهج الإبتداء الذي لا يشيخ هو أهم ما ندعيه. وبذلك الوعي نتزل إلى الواقع لتفتيته، وإلى النماذج و التماثيل لكسرها، وإلى الأب لحمله إلى مرقده السماوي. وإلى المضمون لإعطائه عكاكيز البلاهة وصفاقة الرضى. و إلى الحادثة لوضع الزهور على توابيتها المقدسة.

5-) زلزلة الأشكال والمعاني الموروثة: ما ظل منها حيا من القديم وما صار له أيضا سلطة القديم من انتاجات الحداثة. الجماليات التي تم اكتشافها هي أحد مكونات النص الذي نريد... لا أكثر.

6-) تجاوز كل التعريفات السابقة: لأنها رغم حداثتها ظلت مسكونة بسؤال الهوية. فكأن قارة الأنا بحاجة إلى حصانة الماضي. فلقد ظل الحوار مع جماعة الشعر الحر مراكز على القوانين العروضية التي يسعى شعرهم للتحرر من جمودها ورتابتها، وتواصل هذا المبحث مع جماعة الشعر المعاصر وإن أضافوا مقولة روح العصر أو المعاصرة. واستطاعت "مواقف" أن تخرج بالنقش من هذين المبحثين إلى أفق أرحب. فأكدت لأول مرة "أن الحداثة تجسدت في الشعر الحر كعتبة سفلى للممارسة النصية، والشعر المعاصر كعتبة عليا. وتكون الكتابة الجديدة هي الطرف الأقصى لهذه العتبة العليا " وتجرأت على الماضي وعلى سؤال الهوية ونظرت إلى الشعر العربي في ضوء قيم قادمة من الغرب. ولكن هذا الأفق ظل يعاني من الإرباكات والمراجعات وظل هو أيضا يمارس نوعا من الحنين إلى الماضي وإن كان حنينا شيقا ومليئا بالعقوق، وتركز مفهوم أساسي في فهم العملية الشعرية هو مفهوم الرؤيا. فالعملية الشعرية لم تعد انعكاسا ولا تقريرا ولا شهادة بل انجذاب كلي نحو المتخيل. وبحث عن المنابت والجذور الغامضة التي تحكم العملية الشعرية. فلم يعد الحديث عن الشعر كارتجال أو كصناعة ممكنا، بل أصبحت قارة الرؤيا هي الرحم الوحيد الحاضن لجزر الحواس.  وانفجر الشكل وصار من الضروري أن تكون للكتابة الجديدة لغتها الجديدة. و استبدل الحديث عن العروض بالإيقاع، وعن المعنى الشعري الواحد بالمعنى المتعدد، وامحت تنظيريا الحدود بين القديم والحديث. وترسخت أسس أخرى للكتابة الجديدة تركزت على: - نفي المعلوم وإيجاب المجهول.

-إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية.

-الزمن الثقافي يدل الزمن الشعري.

-استبدال مقولة الفهم.بمقولة التأمل (تعدد المعنى)

-اعتبار القارئ منتجا لا مستهلكا.

 وهذه الأسس التي كانت نتاج فكر خلاق هي أيضا بعض الأسس التي تضيفها للقصيدة. ونعمل على تطويرها ودفعها نحو هواء الغير. وذلك لن يتم إلا في أفق حضاري موسع نفتح فيه النص للاستفادة من منجرات العقل البشري. نفهم كل ذلك ونتجاوزه. ننتقل من التنظير المنفتح على المستقبل. ومن إلغاء الحدود بين الأجناس إلى إنجاز ذلك النص المتعدد ومن استبدال مقولة القهم بالتأمل إلى منطق آخر يخترع فيه النص قارئه. ونؤكد أن ذلك  لن يكون إلا باختراع فعل شعري قابل لجميع المعاني. فدفع الشعر لاستعادة وظيفته الالاهية يقتضي إصلاح الحساسية التي تحكمنا، وإيجاد منابع جديدة للنصوص وإعادة القيمة لعناصر الفعل الشعري للكلمة، تلك الفضة التي هي الواقع الحقيقي للشعر. نلون حروفها ونضع فيها الحياة. وفي هذا الطريق شنجعل الشعر يقترب من الموسيقى و من النحت ومن الرسم وندفعه نحو الإيحاء لا التجسيد، وذلك لأنه لابد من شيء من المغامرة.  إن غرض الشعر ليس الفكرة الواضحة والعاطفة الدقيقة وليس الغموض ولا الإلهام... بل دفع المعنى إلى اللغة ليكتفي القارئ بشيء تقريبي يشد العقل ولا يصدمه، ولا يعيقه عن المشاركة الخلاقة. نعرف كل ذلك ونلغيه. نفهم هذه الحركة في جوهرها. نؤمن أن محركها هو نفسه الذي ننطلق منه لذلك لا نتبنى النتائج لأنها ليست أبدية ونتبنى الحساسية التي حكمت ذلك الجيل لأنها أبدية وذلك هو منتهى ما تتقبله روحنا في التعامل مع الآخرين. إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي صناعته.  ولقد بدأنا ذلك. وسنواصل.

 

 

 
  المحتوى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

يسمح بإعادة النّشر شرط الإشارة إلى المصدر ©
  الزوّار
  للاتّصال بصاحب الموقع
يمكن الأتّصال بالشّاعر في الوقت الحالي على الرّقم الهاتفي 21623400372+
saminasr1234@yahoo.fr أو على البريد الالكتروني
أو مراسلته عبر البريد العادي على العنوان التالي 1 نهج هولاندة حمّام سوسة الجمهورية التّونسيّة
Aujourd'hui sont déjà 7 visiteurs (8 hits) Ici!
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement