Sami Nasr نصر سامي  
 
  السيرة 05/05/2024 01 01 52 (UTC)
   
 

 

  نصر سامي شاعر وكاتب من تونس

 

صدرت له الكتب التّالية

   

- ذاكرة لاتّساع اللغات. دار الأطلسيّة للنشر، تونس. 1996

 

- أنهار لأعالي الضوء. دار الأطلسيّة للنشر، تونس. 1997

 

- السيرة. دار الإتحاف للنشر، تونس. 2001

 

- كتاب الحب. دار سيبويه للنشر، تونس. 2006 (كتاب شعري مصوّر بالاشتراك مع الرسّام التّونسي المقيم بألمانيا الهادي العابد. تمّ تحويله إلى عرض مسرحي بعنوان مديح البيت بدعم من وزارة الثقافة والمحافظة على التراث. وعرض في الموسم المسرحي 2007/2008).

 

- بردى. دار clapas، فرنسا. 2006 (قصيدة مطوّلة باللغتين العربية والفرنسيّة، ترجمتها إلى الفرنسيّة صفيّة التريكي، وقامت بتصوير لوحات الكتاب الرسّامة الفرنسيّة فرانسواز رومار).

 

-الأمطار. دار la stansa del poeta، إيطاليا. 2006 (قصيدة بالعربية والفرنسيّة والإيطالية، ترجمتها إلى الفرنسيّة آسيا السّخيري، وترجمها إلى الإيطالية وقدّم الكتاب الشّاعر الإيطالي جيوزيبي نابوليتانو).

 

هذه النّصوص تصوّر لحظات الكتابة،  تقرّبها، وتخبر عن البدايات...

الغريب:

ترك الباب مفتوحا. ودخل البيت. لم أكلمه.. كنت أفكّر أنه ربما أخطأ وسريعا ما سيعتذر أو يخرج. ولكنه جلس أمامي على الكرسي المقابل لمقعدي ولم يتكلم. ولمّا بدى على وجهي الإنزعاج.. لاحظت زهيرات بيضاء وحمراء تكاد تطلع من سحنته التي بدت لي مسرورة.. وسمعت أنهارا مخبوءة تصهل كآلاف الأحصنة تحت حجرتي الصغيرة.. ولكني لم أكن مسرورا فهذا الغريب الذي قاسمني غرفتي غيّر إيقاع حياتي.

    لم أكن أعرف شيئا عن رغباته وهواياته. ولكنه كان يعرف حبي الطفولي للرسم وكان لا يشجعني على مواصلته.. ذات مرة قال لي : "أنت لا تصلح لهذا" قلت له : " لماذا؟" وكنت أشعر أن تلك الكلمات هي صهارة أنهار من الدموع التي تسقط داخلي. فرد علي بقساوة حجر ساقط من أمكنة بعيدة : " أنت لا تصلح لذلك." وتركني في ليل غرفتي أعوي كخفاش مكسور الأجنحة.

    ولكنني صممت على نسيانه. فالشجرة ليست بحاجة إلى شهادة الأعشاب على وجودها. والنور ليس مضطرا أبدا لكشف أمكنة حضوره. وواصلت رسم ما أفكر به.. وكنت ألمح دائما نظرات الشك.. وكان ذلك الغريب يراقبني وبدأت اتأكد أنه يتمنى لي حقا أن اقنعه.. ولكن ذلك لم يحدث..

    كنت أشعر أني أقنع الكثيرين ولكنه كان لا يصدقني. وأذكر أنه فاجأني وأنا أملأ حجارة الوادي بذالك اللون الداكن وأضع على الليل تلك الأغشية اللامرئية من الرضى والسكينة.. "متى ستصدق أنك لم تخلق لذلك". كان شيئ ما في صوته صادقا.. حتى أن الشك بدأ يقرض دواخله.. وارتبكت أصابعي.. وتمكن الغريب من إقناعي بأني أكبر من أخلاط الألوان تلك وأكبر من رسم تلك التعابير.. وانقطعت عن الرسم. وشعرت في تلك الفترة بأن ذلك الغريب كان يهيؤني لشيء آخر. وضللت أتساءل. ولم يفدني بكلمة. كان يتركني لوحدتي القاتلة ولأصدقائي السيئين ولتلك الكتب التي كانت الحل الوحيد للهروب من ترقّب كلماته..

    ولكنه لم يكن يتركني. كان صوته طول الليل يتردد كخوار ثور في ليل غرفتي الباردة. وكان الخوف باديا على وجهه. وأصابعه الطويلة المعروقة العظام تقلب صفحة الليالي والنهارات. وتكدس الآلام على تلال قلبي الأجرد..

    وبدى إحساس جديد يولد عندي. إحساس لم أعهده ولم أفكر به. وكان يقض مضجعي في سنواتي الأولى ولكنه الآن أحد أهم مكوناتي إحساس الحذر من ذلك الغريب ومن كلماته الغريبة. والخوف أن يطبق بأصابعه الطويلة على عنقي الصغير. ولذلك كنت دائما أنام بنصف عين كذئاب الجبال. وأفكر في نومي. وأمشي في نومي. وأسمع الأصوات. وأبيض الليل وأجذب إلى جسده غطاء الضوء. وكنت أرى نفسي في ما يشبه الحلم أدفع عربات إلى مواقعها في الليالي الحالكة. وأدير ظهر الأهلة نحوى شبّاكي. وأحاول كشر ذلك التعاقب المتكرر منذ آلاف السنوات.. وسكنتني فكرة التغيير.

    وتفطن الغريب لذلك العذاب وبدى سعيدا حتى أنني لمحت أسنانه لأول مرة عندما رأيته يقرأ رسالتي الأولى التي أرسلتها إلى صديقة تدرس معي.. ورأيت تلك الفراشات الباردة تحيط بأصابعه الطويلة وفكرت بتدفأتها وتلوين أجنحتها الصغيرة. وطاردتها وأمسكت بيديه.. وسألني: " تريد التغيير؟" فقلت له: "لا..أريد احتضان الفراشات الباردة" وأضفت: " وأرغب في اللعب معها" ولم يتكلم. ترك فمه مطبقا كنهر مختوم ويديه باردتين كسحابات شتوية. وأطبق الباب وسمعت ضحكته الغريبة من وراء اللوح.. ورأيت آلاف الأجنحة الصغيرة تتساقط من السقف على سريري الذي صرت أحسه أشبه بتابوت مشدود بحبال الضوء إلى أمكنة لا مرئية.

    ورسالتي تلك رسالة بسيطة. أذكر أنني كتبتها لأن إحساسي بالخوف كان مدمرا.. وأذكر بعد كتابتها أن مطرا من المحبات همى على أغطيتي الصوفية في أنصاف الليل. وأن سرب نجوم تسلل إلى سريري من الشباك وترك على اللوح صنادله الصغيرة وأقراطه الملونة.

    في تلك الرسالة الأولى غمرني إحساس لم أعهد في حياتي أبدا من قبل. لقد أعطتني إحساسا غامضا بالسمو.. ومكنتني للحظات من الهروب من سلطة ذلك الغريب. ووجدت نفسي خارج ذلك البئر (بئر الخطايا) ونبتت في لحظة أجنحة صغيرة فوق أضلاعي من الخلف. وأبصرت جسدي يعلو ويرى ومن يومها رأيت ذلك الغريب يدق مسامره في الأرض الصخرية..  ويبدأ نحت أول حروف إسمي على الهواء.. وأبهجتني الفكرة (فكرة التعلق بحبال الضوء والتدلي كبراق واحتضان المطلقات).

أذكر الآن تلك الرسالة عن تلك الطاقات الغريبة التي تبثها في جسدي النحيل. هل كانت حقا عملا أدبيا خالدا؟ هل كانت ذلك النهر المليئ  بمياه المحبة الذي تعمدت فيه؟ هل كانت تلك الأسطر الصغيرة المعوجة الحروف البيت السماوي لموهبتي المهاجرة؟ أتسائل ولا أدري. ورسالتي تلك كغيرها من وثائق شبابي ضائعة. كيف يمكن أن تكون في بعض الأسطر القليلة طاقات تحرير هائلة كالتي جرفتني؟ ولا أدري أيضا لماذا تمكنت من قبول ذلك الغريب والتعامل معه.

    كان كل ذلك شيئا شبيها بالاكتشاف (اكتشاف تلك الطاقة المحيرة الغامضة التي للكلمات) والاحتماء بها.. وليكن ما يكون. وتوالت الرسائل والقصائد الصغيرة وبذرة التغيير تطفو تحت عروق بشريتي كجهنمات حارقة.

    وبدأ الأصدقاء يصدقون. وتلك الفتاة التي كتبت لها الرسائل الأولى صدقتني وقالت لي: "أنت لا تكتب أنت ترسم " وضلت تلك الجملة تلاحقني إلى الآن وتعودت أن أسمع ملاحظاتهم عن اللون وعن الأخلاط الهشة التي تستحيل في كتابتي إلى أنهار بلا مصبات. وعن الخلفيات التي تبدو مبللة وغائمة.. وعن تلك الروح البيضاء التي تلف المشاهد... وتلقي عليها بأستار الغموض.

            و كان ذلك يعجبني. وصاروا يطلقون علي اسم الشاعر. ذلك الاسم الذي يبدو لي بعيدا وسماويا كمجرة. وقادتني عربات الصباحات واخترق ذلك الضوء السري حياتي. ومن تلك الأيام صار الغريب ملازما لي.. أكتب وأقرأ له.. فيأخذ أوراقي وينفخ فيها من جسده فأرى ألوانا باهتة تملأ بفيوض الأحرف. وأرى كائنات تتحول إلى ميمياوات وجواريرضياء.. وكنت أرى كتابتي تصير صهارة من ضوء وظلام. أنا الذي أجهدت نفسي في تحريرها من الظلام.

    وسمعته يكلمني: " لقد صرت رساما جيدا" كانت تلك أول الكلمات التي هزتني حقا. وصرخت به وفراشاته الزرقاء تملأ هواء الغرفةك " ولكنني لست رساما" "أنا..." ولم أكمل فعيناه الغائرتان كنهارين آفلين كانتا تخرقان حجب الروح. وانهرت على المقعد.. ولكنه تصرف معي على غير طبيعته الفضة. وأحست إسفنجتي أنها تشربت ضوءه القديم ومياهه المنبجسة من قيعان الأرض. وتضاءلت أمامه. وأغرقني إحساس لم أعرفه وكان علي أن أدركه وأن أزيحه. ولكنني لم أدركه. ولم أتمكن من إزاحته. فكل ما أتذكره الآن هو صورة الغريب التي تتدلى كعرائش الأعناب فوق رأسي. وأتذكر فمي الذي بدأ في مرارة الليل تذوق الدوالي.. وأتذكر صوته عندما همس لي: "إنها دوالي المرارات، يا شاعري، ودوالي المعرفة " وأذكر أنه لم ينتبه في ذلك اليوم إلا وأعناب

 الغريب فارغة تماما من دوالي المرارات والمعرفة وكانت لفظة يا شاعري تملأ الفضاء...

البراق:

هل تعمدت أن أكون مختلفا؟ لا أدري. ولكنهم كانوا يعتقدون ذلك وكانوا يظنون أن شجرة السرول التي بلا أرض لم تكبر أبدا. وأن الطائر بأجنحته الستتة لن يطير. وأن النور الذي لايتبعه ليل لا يمكن أن يبقى. وأن قصائدي تلك وأغنياتي لن يصفر عليها القطار ( قطار الإسمنت والبضائع القديمة الذي يمرّ كل خميس من أمام بيت الأهل في سيدي بوزيد ).

 وكانوا يرون أني بكامل ضوئي وأجنحتي الصغيرة التي أخفيها تحت ملابسي وجبال النجوم المعلقة في البيت القديم الذي أنزل إليه في الليل. لن أكون مهما أمطرت طوفانا. وكنت أتمنى أن يأتي الطوفان لأنه لن يطهرهم شيء غيره.

ولقد لاحظت أن تلك الإعتقادات كانت تذهب إلى أنني لست بشرا. وكان ذلك شيئا فاتنا لي. فأنا شجرة. وطائر بأجنحة لامرئية. و طوفان أفراس مطهمة تخرج من الأحاجي وحكايات الليل وتطوف المفاوز الجبال.

وكانوا يعتقدون أيضا أنني قائد أوهام وأمير شياطين وأن كلماتي وقصائدي التي بدأت تنشر في الجرائد هي إثباتا نصية على اختلافي عنهم. وكنت أجد سعادة في إلقاء تلك القماشات الشفافة من السواد في كتابتي لكي لا يتمكن أحد سوى صديقتي تلك من معاملتي كنهر ضال. ومن فتح ضفاف أنوثتها لجسدي المتعب وأضلاعي النافرة.

هل كنت أتعمد ذلك؟ لا أدري. ما كنت متأكد منه كان إحساسي بأني أمتلك قوة ما. وأن تلك القوة التي سيطرت على كياني تتصرف بإرادة لم أتمكن طول الوقت من لجمها.. وفي الليل عندما كنت أفكر ببداية نصوص أخرى كنت أجدها في الصباح مكتوبة. وكل ما علي فعله هو قراءة تلك الأوراق والتصرف فيه كأنها أملاك لي. هل يعني ذلك أنني أؤمن بشيطان الشعر؟ لا.. أبدا.. ولكن ما كان يحصل لي كان أكبر من جسدي. ولعل هذا ما فتح بصري على القوى المجهولة التي تحتكم عليها قارة الجسد.

في تلك الأيام أيضا حصلت لي قصة كتبتها في بعد في كتابي (كلمة الله) وحاولت أن أستعير طاقتها الإيحائية في قصيدة لي بعنوان (قداسات داس عليها الليل بآثار خطاياه) وهذه القصة وغيرها أجد نفسي الآن قادرا على كتابتها تماما كما حصل لي. وهذه القدرة التي أمتلكها الآن والتي يسميها الغريب الخبرة مكنتي من امتلاك كتابة قادرة على صهر الأزمنة الشعرية المتعددة. وأعطتني حرية وجرأة أبحرت بهما في جسد الكتابة دونما خوف. وجربت. وجربت.

كانت الكتابة أرضا للمحو. هكذا كنت أفكر.. ولم يتهيأ لي أبدا أنني سأتوصل إلى ممارسة النظرات العصفورية على عوالمهم وكتابتهم في هذه السرعة. واستطعت أن أتوصل إلى الإيمان بفاعلية الشعرية وبأنهم ليسوا كائنات فارقة.

ولازمني الإحساس نفسه بالعلو وأنا أعد هذه الأيام كتاب الثالث للنشر (السيرة/عربة لخيل الأساطير) نعم. نفس ذلك الإحساس الذي أطلقني كقارب نجوم في سمائهم بل كعربة أضواء. ألواحها الأزمنة وأفراسها الأهلة. هو الذي أصبح اليوم مصيري وقدري. وعزلتي التي بدأت أشعر بها. إنني أكتب أنا أسبح في فضة العوالم. لا شيئ يذكرني ببشرتي إلا رهبة الموت. تلك القرية الكونية الخارجة لتوها من بيت التجريد. إنني أكتب لكي أصير كائنا ليليا مجهولا كنجمة بعيدة لا يصل إليها الليل. وأكتب لأصير بإستمرار ومن سنوات مفزوعا من الكلمات. تلك الكلمات التي نطلبها ونلح في طلبها فتتمنع. وبعد أيام تأتي وحيدة كأجساد مطلقة وحين تبدأ الكلمات في التوالي تبدأ تلك الكائنات النهارية في التحرر و الشيوع. الأغاني. ونبدأ نحن في ارتياد عزلاتنا الوعرة ومصيرنا القاسي. الخوف.

لقد أصبحت كاتبا. لأنني استطعت الإصغاء إلى طرقات الموت على أبواب عزلتي. وليس مهما عندي أن أقنع أحدا بأن أيقوناتي كلها كسرت. وأن جسدي صار مثقلا بالمرارات. وبتلك الثمرات الثقيلة التي أنبتتها الأبديات على أطرافي. كل ما أفكر به أن أتمكن من تركي كل ما أريد بهذا العصر. وأن أشرع كالضوء في امتلاك أمكنتي.

هل لهذه الأسباب وحدها تركت نشر صورتي في أحد كتبي؟ لا أدري. ما أعلمه الآن وأنا أعد كتابي الثالث للنشر أن صورتي ستكون على طول الغلاف الأول. وأن لا شيء آخر إلا العنوان سيكون مكتوبا. وأما لماذا قررت ذلك؟ فلا أدري. "هل هو الخوف من طرقات الموت على أبواب العزلة " صرخ بي الغريب. وأخذ بيدي. وفي ما كان الآخرون يحاولون اللحاق بي كنت أتناءى تدريجيا كبراق ضال.

 

 
  المحتوى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

يسمح بإعادة النّشر شرط الإشارة إلى المصدر ©
  الزوّار
  للاتّصال بصاحب الموقع
يمكن الأتّصال بالشّاعر في الوقت الحالي على الرّقم الهاتفي 21623400372+
saminasr1234@yahoo.fr أو على البريد الالكتروني
أو مراسلته عبر البريد العادي على العنوان التالي 1 نهج هولاندة حمّام سوسة الجمهورية التّونسيّة
Aujourd'hui sont déjà 2 visiteurs (2 hits) Ici!
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement