Sami Nasr نصر سامي  
 
  جدارية بن خلدون 18/05/2024 13 01 35 (UTC)
   
 

 جداريّة ابن خلدون

السّورة الأولى:

 ننادي يا ابن خلدون القصائد كلّها، نهاتفُها على قلق لنلمس فضّة الأوطان، نمدّ حرفا للضياء لكي يضاء، ونمدّ صوتا للسّماء. "أهذه لغة لنكتب حبّنا للآخرين؟ أهذا الوقت يمكن أن نحرّكه بملعقة ككوب الشّاي كي نخفي مرارته؟" [1] تعبنا من عشوش الطيّر نحسبها بلادا فتسكنها الرياحُ. تعبنا من حرير الوقت يحتزّ العروق بنابه ويمدّ سيفا للبروق لكي تموت. "أهذا القبر للتّاريخ أم لمقامنا في عتمة التاريخ؟" تساءلنا ليسمعنا الزمان. وها نخوّض وحدنا في الليل!  [2]

السّورة الثانية:

 لم يكن خالدا

لم يكن نيزكا قادما من مكان بعيد [1] 

العبارات أوطانه

والأناشيد

أحزانه

والأغاريد [2] 

له لغة فضّة الوقت فيها وفيها بريق الذّهب [3] ويعرف كيف يهيئ من يومه فقرة في كتاب الأساطير والأغنيات القديمة [4] ويعرف كيف يفجّر زهر السّحب [5] "سماء لشعر حبيبي الطّويل" يقول ويرمي حروفا على أفق قد رعته الغزالة، "وبرق لتركب في عربات النجوم"، "ونهر لتنسى ملابسها قرب سور الحديقة"![6] مزارات طير الدّنى فيه، وفيه العشوش التي هجر الطّير من زمن، وفيه الحقول[7] وأسطقسّاته نغمات البروق لها آلة، والخيول لها لغة والسّيول [8] له الآن ريح تهبّ من النسغ، وتضرب عمق الوجود بكفّ إلاهيّة، فيخضرّ صخر ويندى تراب وتخضلّ دالية، ويورق في آخر الليل ضوء الحقيقة [9] ريحه هذه آية في الغرابة [10] (لها برنس تتدفّأ فيه العواصف وترقد فيه البروق، وتنسج قمصانها من تراب الحديث ومن شجن الأمكنة، ولها مركبات وأحصنة من حرير الصّباح ومن ذهب الأزمنة) [12].. ريحه هذه لغة لم يعتدها أحد لكنّ العشب تململ وهو يراها تتمهّل بين الوديان وبين البحر، والورد تذكرها وهي تنقّعه بالعطر الأبديّ الخارج من جنتها والنهر تألّق وهي تبادله الأشواق وتطرّزه بالحيتان وبالوزغ الجبلي، والحجر المتروك وراء سقيفتنا هلّل وهو يراها تتجمّل في أحواض المغسل أو تنتزع الأصباغ [13] فتاة في الحيّ رأتها فتمنّت أن تلمسها ليدار النهد ويهتزّ الصدر ويطول السّالف حتّى يلمس قلب الأرض. وامرأة قالت: "لو جاءتني الريح، إذن، لترقرق في سنواتي الخمسين ضياء الأمس ولهزّت جسمي الرغبات" وعجوز قالت وهي تخبّئ سبحتها تحت غطاء الليل: "لو تلمسني الرّيح، إذن، لتزوّجت وأنجبت الأطفال، وعشت وزوجي تحت الشّمس نسقّي الزرع ونخصف من ورق الجنّات على العضوين لنستر سوءات الأجداد" [14] وجار قال لجارته الحسناء: "انتظري حتّى تأتي الريح فتلمس بالآمال حقول الروح الجرداء" وأب قال لطفليه: "أتمّا غرس الأشجار هنا وهناك على ضفّات الوادي وستنبت إن لمستها الريح" [15] قرب سور الحديقة نهر لتشرب روح الغزالة من فضّة الأرض [16] وخلف الجدار الذّي يفصل الشمس عن ظلّه نصب وتماثيل تنبع منها الأساطير والأغنيات القديمة [17] وخلف النوافذ نور يهبّ ويضرب عمق الوجود بكفّ إلاهيّة فيخضرّ صخر ويندى تراب وتخضلّ دالية ويورق في أوّل الليل ضوء الحقيقة! [18] يتأمّل، يقرأ، يسرق لوزا من الجار، أو يتسلّى بحفر الخطوط الطوال بجير السقيفة [19] يعدّ الكؤوس لأحبابه الغائبين، ويغلي على النار شاي الفجائع للشعراء ويستيقظ النّاس من نومهم كي يروا فجره، هذه بعض آثاره [20] ناعم غير أنّ السحب أخذت منه أنهارها وانكساراتها وحقول الذّهب [21] هادئ غير أنّ البروق الطليقة أخذت منه أجنحة كي تطير وتطرح في الأفق ثلج الغضب [22] شاعر غير أنّ الكلام يضيق به فيحاول لجم الأساطير في كلمات فيخطفه الضّوء وتأتي نجوم ليصعد نحو الأعالي بها [23] إنّه كائن كامن في الغموض [24] وفي البرق مسكنه [25] ينتمي للضياء البعيد [26] وفي ظلمات الوجود منازله [27] قادر أن يرى الأبدية في ثمرة سقطت فجأة من حبال الشجر[28] قادر أن يراها على عشبة أو حجر[29] قادر وحده أن يميّزها في الوجوه وفي قاطرات الصور[30] ويحضنها في السّواد العميق الذي يتسلّل من شعرها دائما قبل بدء السفر [31] لم يكن خالدا [32] لم يكن نيزكا قادما من مكان بعيد [33] العبارات أكفانه والأناشيد أوطانه والأغاريد [34] له حكمة الريح[35] ويدرك أنّ القصيدة كامنة في العروق، "حقول بروق" يردّد في صمته للفتاة التي تركت عمرها كي يقول لها: "اكشفي صدرك كي يجيء الضياء وقولي لهذا الغموض انكشف"، ويعرف في خطفة الاندفاعات أن يؤبّد ما ينتهي ويؤسطر ما يندثر[36] ليس سحرا، ليس إيحاء نبيّ [37] ليس نهرا نابعا من فكرة طافت بأحلام البشر[38] إنّه نبض غريب في الجماد [39] انهيارات وموت يتنامى في انهيارات السواد [40] عالم ينهض أعمى [41] ليس ضوءا [42] ليس عنقاء رماد [43] ليس برقا واعدا بالأبد [44] يجوهر عارض الأكوان، هكذا في لحظة، ويجسدن الأرواح في عزلاته، يمضي إلى العتمات كي يستكمل الألواح لوحا بعد لوح، ويهيء البيت الصغير لعودة الألاف[45] معجزة هذه الريح [46] برقها ناعم ويمزّق في لحظة فضّة الزيف [47] يهبّ كنهر الفراش الرحيم، ويفتضّ جسم الأكاذيب والمطلقات، يلهو كطفل بماء الحياة، ويفجّج فيه السّموم الرحيمة كي تكبر الكلمات هناك، ويرفل في النور شعر الغزال الصغير، يميت ويحيي وفي روحه جنّة وحريق [48] وترعى الخراف الصغيرة في ما يخلّف من خضرة في السهول، ويأتي الخطاف ليصنع أعشاشه في ما يخلّفه صوته من عواصف باردة وسيول[49]  حارق وتنهلّ من راحتيه الثلوج وينهلّ برق وتأتي خيول الرياح لتعطيه حيرتها [50] ويأتي نهار لينثر أقماره في هواء الرحيل [51] هو الآن أغنية الوقت، النهارات إيقاعه والليالي مجازاته، ويجهر: "صوتي حياتي وريحي موزّعة في جميع اللغات" [52] 

السّورة الثالثة:

 هو الآن يبتعد

يختفي في المساء، ويجتهد

في الإفاقة قبل الطيور، كعادته منذ عام، يمدّ

يديه ليلقط زهر الدّروب المبلّل بالماء، ويخفي دموعا يجمّد

ها الحزن في صدره [1] 

تجيء إليه الطيور، الخراف، الفراش، النسور... تجيء إليه

العصور بصناديلها الصّوف، وتجيء إليه النجوم [2] 

سألناه يوما: "لماذا تفرّ وتأتي إليك الطيور؟"  

"لماذا تفاجؤنا دائما بالحضور؟"

"وترهبنا بالغياب؟"

فأجرى النظر بعيدا، وفكّ زرائر معطفه، وهو ينأى وحيدا كشمس مسقّفة بالسّيوف! وغمغم في حيرة: "أخاف تأكلني الطيوف، أخاف تجرفني الحياة، أخاف تسكنني الحتوف". وألقى غيوما على الضّوء، فلم نفرح برؤيته طويلا. قلنا: "بعد عام سيعود، سيعود فوق براقه المنسوج من ذهب الوجود" [3] أدركت حين خطوت منذ الفجر مثل أهلّة الأشواق نحو الحيّ أنّ بهاءه حضن الطريق وهيّأ السّاحات [4] من تنهّد عشبة أدركت أنّ يديه مرّرتا الحرير [حرير الأغنيات] على التراب، وجدّدتا الحياة [5] لم أكن أدري لماذا سرت مسبوقا بخوفي إثره؟ "لم أهيّئ للرّحيل سوى الرماد" قال لي "لم أقل للأهل أنّ سفينة مسحورة ستمرّ بي كي تحمل العنقاء من جسدي، لم أجد وقتا لأنسى طفلتي ولأقلع الشجر المسافر في دمي. ما كان كان. فلا فرار من السّواد ولا فرار من الصّدى"[6] "لم أنتظر أحدا لأكتب قصّتي، أدركت أنّ حقيقتي العظمى تمسّ ولم أهيّئ بعد عمري للرحيل وقصيدتي لم تكتمل. أدركت وهو يضمّني أنّ النجوم قريبة جدّا "بإمكاني إذن شدّ النجوم" وعلمت أنّ الغيم في جسدي "بإمكاني إذن ملأ الدنى ضوءا وإغراق التخوم" هل كنت مرشوشا بماء الورد ساعتها ليمتلأ الفضاء ندى؟ هل كنت مغمورا بأضواء الدّجى كي تفتح الوردات أكمام الربيع على يدي؟ هل كنت منسيّا كفينيق صغير خلف أحجار المدى؟ [7] ولم يكمل قصيدته، قضى يومين وهو يحاول، لكنّه لم يستطع شدّ البروق "سأكملها غدا أو ربّما سيعينني فيها الشروق" قال لي ويداه تمتدّان نحوي بالسلام مودّعا. لمحت في عينيه دمعا جامدا. ورأيت سرب حمائم ينسلّ من شفتيه. وبدا لعيني أنّ نهرا هائلا قد جفّ فيه لتوّه [8] كلماته تلك الصغيرة لم تفارق خاطري وأنا أتابع من وراء مدرّجات الجبس غيبته. "ستكبر ذات يوم" قال لي "لكنّ شيئا فيك لو يبقى صغيرا، فسوف تحيا طائرا" وجسّ قلبي. ناديته "عمّاه ياعمّاه، هبني فرصة كي أفهم الصحراء فيك وفي فؤادي" هبني لحظة كي أفهم الأموات فيك وأفهم الأحياء"، لكنّه لم يستجب. رمى نحوي رماد لفافة التبغ القديمة، وانثنى مستعجلا [9] لم أستطع إقناعه بالضّوء الذّي يهتزّ في لغتي ويسقي الكون، لم أمكّن من دقائق كي أفسّر رغبتي في فهم معجزة الغياب وفكّ أحجية الحضور. قيل لي "دع عنك أمر الميتين وخاطب الأحياء، قل كلاما واضحا كي تفهم الدّنيا انكسار الضّوء فيك وصرخة الظلمات واعبر إلى أرض جديدة. احرق تكن. فالعود معقود بناصية الرماد، والليل ترهبه القصيدة"[10] لم أستطع إمساكه، أمسكت منه البرق والنجم المعلّق في سماء الخوف، أمسكت نهرا راحلا في أمسيات الصّيف، لكنّه لم ينتظرني لحظة كي أكمل التطواف فيه وأقطف الثمرات. لم ينتظرني لحظة كي أحدّد وجهة السّيف (سيف مشاعري) ترك المكان بخفّة. أدركت حين رأيته أنّ الغيوم قريبة جدّا "بإمكاني إذن جني الجواهر من حقول الغيم!" وعلمت أنّ النجم في شفتي "بإمكاني إذن أن أجعل الأزهار تنبض في صخور الكون" لكن كيف؟ كنت مرشوشا بماء الورد ساعتها، ثوب الفضاء مبلّل بدموعه قربي، وأضواء الدّجى محروقة، وعنقائي تكاد تولد ثمّ تفنى ثمّ تولد ثمّ تفنى ثم يغويها الرماد. [11]

معطفه

     على

      الكرسيّ

            مثلي

                حائرٌ

                     قلِقُ

                        والضوء كامنةٌ دناه تكاد تنبثقُ

                        أمّا الغريب

                    ففي عزلاته

                  يحيا

           ويحترق

         [12]

الآن أمعن في الغياب، لم تستطع رؤياه أن تُمضي سويعتها القصيرة قرب قلبي. كان يبدو أنّ غيما ناعما قد بلّل القمر الصّغير وبلّل الغابات، غير روحي. فإنّ غيما واحدا لن يستطيع إضاءة الظلمات، "لو كنت تدري ما الهوى، أجريت قلبي أنهرا" حدّثته وأنا أحدّق في الطّيور "لوكنت تدري، أفنيتُ في الكلمات عمري" لكنّ شيئا لم يصل. فرجعت مفتونا بنهر لا وجود له جرف الزهور النابتات بأضلعي، فرجعت مخفورا بأشجار اللغات وبالحنين إلى الرماد [13] "ماذا أنا غير الورود النّابتات وراء قلبي؟ ماذا أنا غير الشّتول الخضر في ظلّ الشجر؟ ماذا أنا غير النجوم المستحمّة في وريد الليل في ذهب القمر؟ ماذا أنا غير الطريق إلى النقيض وقد تذكّر روحه في أحرفي؟" [14] هذا أنا، لم أستطع تحويل أسئلتي فؤوسا كي أموت ولا ظلال تحيط بي! [15] كلّما فكّرتُ شرّدني فؤادي، سأؤجّل التوديع ثانية، وأصير أرضا أو خطافا أو سحابا في بلادي [61]

 
  المحتوى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

يسمح بإعادة النّشر شرط الإشارة إلى المصدر ©
  الزوّار
  للاتّصال بصاحب الموقع
يمكن الأتّصال بالشّاعر في الوقت الحالي على الرّقم الهاتفي 21623400372+
saminasr1234@yahoo.fr أو على البريد الالكتروني
أو مراسلته عبر البريد العادي على العنوان التالي 1 نهج هولاندة حمّام سوسة الجمهورية التّونسيّة
Aujourd'hui sont déjà 4 visiteurs (6 hits) Ici!
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement