Sami Nasr نصر سامي  
 
  من عشرة أعوام بالضبط 18/05/2024 13 01 35 (UTC)
   
 

من عشرة أعوام بالضبط

 

أخيرا لمست الحياة.

وأدركت ماهي.. أيّ فراغ ثقيل.

أخيرا تبيّنت سرّ الفقاقيع. وا خيبتاه.

وأدركت أنّي أضعت زمانا طويل.

ألمّ الظلال وأخبط في عتمة المستحيل.

نازك الملائكة

حتّى يعيش المرء بشرف عليه أن يتمزّق بقوّة، أن يتضارب، أن يخطئ، وأن يبدأ ويترك. ومن ثمّ يبدأ، ومن جديد يترك. وعليه أن يناضل دائما ويخسر. فالراحة دناءة روحيّة.

تولستوي

 

        ملكت العالم حين تقابلنا، من عشرة أعوام بالضّبط. ملكت خيول البدء وما يقطره الحوذيون من العربات المملوءة بالأضواء وفضّات الوقت. منها كنت وفيها صرت. من عينيها أبصرت طريقي في الظلماء وسرت. ومن شفتيها أنبتّ فؤادا للصّخر وقلبا للألواح. ومن غيمات الصّدر صنعت قوارب تكفي لأفاجئ نمل الموت. 

        لم أملك شيئا أبدا، إلا حين تقابلنا. ولم يملكني شيء. صار الليل إناء خشبيّا تنبت فيه بذور الضّوء. وصار البدء نهاية.     

الأعمى قال "ما أروع هذي الظلمة، لمّا تسمّع فيها الصّوت الحامل ألف سماء". والأكمه قال "ما أثقل ما أحمل من أسماء". أمّا المجنون فلم يتذكّر إلا الماضي، حين العالم كان حديقة قطن والوقت فراشات والرّيح طريقا تحت ثياب الصّوف.

أتملّى صخر العالم. أتذكّر أنّي فوق منابته قطرات ندى. أتنصّل من روحي، لكنّ النّصل المسنون، يحزّ بأعماقي شجرا وسماوات كثرا وصدى. أتوهّم أفقا فيه أسقّي شجر الضّوء ليثمر جنّات وهدى.

وأهمّ بأيامي أقطّعها شجرا شجرا. أسقّف منزل ذاكرتي باللّوح الأخضر. "سماء بسقوف خضر". "ما أروعها". ستقول الجارة. "ذاكرة لا عمر لها، تتظلّل باللّوح المقتول". ستقول ابنتها. أمّا العشب النّابت قرب الأعذاق الملتاعة فلن يتحوّل أبدا شجرا كي يمنحني الظلّ.

سيمرّ عليّ الوقت بالعربات وبأحمال الآجرّ وخيطان الجدّاد، نساء فوق العربات سيلمحن البيت النائم في أعماق الغاب. وسوف يرون رمادي وهو يمدّ لعنقاء اللّيل يديه. ويسرق نيران الأجداد.

جمال ومعيز وعصافير... ستأوي اثنين اثنين لفناء البيت. "الطّوفان بعيد بعض الشّيء". أقول لها. "والمركب لمّا يصنع بعد". "فصبرا". وأواصل قطع الأشجار، وأخزّن ما أمكن من زاد للرّحلة نحو المجهول.

أتذكّر نوحا، لكنّي لا أشبهه. كان العالم طفلا حين أتاه الماء. أمّا الآن، فهذا العالم شيخ. "سأصنع فلكا للحيوان فقط. وسأبقى والنّاس هنا كي يتخلّص منّا العالم".

لم أتذكّر إلا صورتها المخلوطة بالحصباء والطّمي البارد وروث الحيوان. لم أتذكّر إلا اللّيل المذبوح على شفتيها الباردتين وعينيها الغائرتين الحاملتين لحزن الأرض. لم أتذكّر غير الفجر الذّابل يتسلّل من شفتيها أسود محروقا. لم أتذكّر ورصاص الصّمت يجلّل وجه الغمر سوى كدمات زرق تحت الثوب.

ماتت. أصدّق أنّ المرأة ماتت. الموت جميل حين يذيق الوقت سموم الصّبر. المرأة ماتت حقّا. أخذت كالبرق وغابت في الأضواء. لم تصبح نهرا أبدا كي نتعمّد فيه لنحيا أبدا. لم تصبح شجرا كي نتذكّر تفّاح صبانا الآفل، أو نتذكّر حنّاء الجارة حين تمدّد ساقيها لهواء اللّيل البارد. لم تصبح سيفا كي نقطع عنق الموت، ونرفعه علما في وطن النّسيان. لم تصبح عطرا كي نتذكّر أنّ اللّه بعيد جدّا عنّا. صارت قبرا. صارت بستان رماد. وها جسدي منقوع في سمّ الذلّ هنا بعيدا عن جنّات الموت ثقيلا بالأصفاد.

لم يبق غيري. ففيم الخوف إذن؟ الدّود معي، وغراب البين. ولا أعلم كيف أسير؟ ولا حتّى أين؟ أصبحت وحيدا. وأضلاعي صارت من قبل نساء وشجيرات. وما عادت تصلح إلا بيتا للرّيح. لم أتمكّن من إنقاذ الأعداء لأصلب من أجل حياة أخرى. ولم أعط الغرقى لوحا ليدقّوا فيه مسامير الصّلب.كنت مجرّد قلب. وها قد مات القلب. صار الوقت مسيحا أعمى وكسيحا. وصار العمر ضريحا مفتوحا. وصار الحبّ حديدا مسموما مغروسا في لحم الغيب.

أتذكّرها شجرا شجرا وهي تهزّ بساقيها وسطي. وتمدّ أصابعها لتغربل ضوء الغرفة. وأكاد أراها الآن تهزّ جناحيها مثل خطاف مبلول لتعمّدني بمياه النّسيان. ناديت اللّيل القابع مثل غراب مذبوح قرب ضريح الرّغبة. لكنّ دماء الألفة كانت حبل غسيل لثياب القتلة. ناديت اللّيل الغارق مثل غراب مذبوح في طين العتمة. "خذني ألفا فيك، وخذني ياء، خذني ضمّة. امنح جسدي عشب حياة، امنح جسدي نغمة". لكنّ قطار اللّيل الأسود مرّ ولم ينطق كلمة.

حين تقابلنا من عشرة أعوام بالضبط، لم نربح حربا أبدا. بين معوق وأسير ضاع الجند. صرنا أكثر حزنا. وصار الخوف، حمام طفولتنا المنسيّ، صديقا مألوفا في الحيّ. لم نتقبّل بعد بأنّا يمكن أن نفرض شرطا أو اثنين لينال الأعداء سلاما أبيض مثل السكّر أو مثل الملح. أقدام العسكر داستنا. والخوف تنامي. أصبح أعلى من كلّ الأشجار. صار الخوف الماء وصار هواء البلدة. وصار الحرف سلاح العجزة. حين تقابلنا كان العالم طفلا. أمّا الآن، فهذا العالم شيخ. سأموت لوحدي في هذي العزلة. لوحدي مثل الدّودة أو مثل النملة تحت حذاء العسكر أو تحت حراب الإخوة.

 أذكر حين بكت. كانت تتصوّر أنّي تعرّفت إلى امرأة أخرى أجمل أو أحلى. كانت تنسى أنّ دموعا منها تحيي أرضا، تستر عرضا. تمنح طولا، تمنح عرضا. تجعل للأضلاع إذا شاء فؤادي جسدا حيّا، نغما، نبضا. كانت تنسى أنّ الصّوت الباكي منها يجعل نصف العالم مرضى. وأنّ الحزن الأسود في عينيها يغسل عار العالم، ويرضع ذاك الشّجر الواقف رفضا. كانت تعلم أنّ الحبّ فراشة ضوء، وأنّي الصّدأ الملقى منذ البدء بوجه الغمر.

أتذكّر ضحكتها المسكونة بالجنّات، مبسمها المدعوك بفضّات اللّيل وفيروز السّاعات، خدّيها المحفورين بإزميل الضّوء وقرآن الخامات، والجسم المقدود من الميمات، من الجيمات، من الرّاءات، والأنف الواقف مثل سماء من عطر الصّمت ومن برد الصّلوات، والشّعر الغابات. أتذكّرها وهي تعلّق نجما يسقط فوق أصابعها ليلا أو ترتق فتقا في ثوب الأرض البائد أو تتدفّق في شريان الضّوء. أتذكّرها وهي تزرّر بالأزهار قماشات الماء، وتبكي من أجل سماء غارقة في السمّ وعمياء.

"تلك المرأة حلم". قال فاروق النّادل في مقهى المركز. "أو نجم تاه وأهمله الوقت". وقالت ليلى سيّدة الحان. "تلك المرأة لا شكّ رسول الموت". أمّا بسمة فتاة اللّيل فلقد ضحكت وهي تمنّي النّفس بغيم مبتلّ بالرغبة.

لم يسأل أحد عنها السيّاب. لو سألوا لارتدّ صدى منها يكفي ليعمّر أرضا ماتت. لم يسأل أحد عنها مايكوفسكي. لو سألوا لامتدّ صدى منها يكفي ليسوّي أرضا مالت عن قرن الثّور وأغرقها الخوف. لم يسأل أحد عنها المتنبّي ولا شوقي ولا درويش. لو سألوا لترقرق منها الضّوء وأغرق ليل الخوف.

كانت فجرا مذبوحا بسكاكين الغدر الصّدئة. "رأينا دمها يصعد نحو المطلق". قال عماد العرّاف. "ورأينا ريشا ينبت بين ذراعيها". استدرك فرج البوّاب. "ورأينا ضوءا يتدفّق فيها". قال السّاعي إسماعيل. ورأيت وما صدّقت. رأيت وما صدّقت. وكذّبت الرّؤيا. ضوء ينسلّ من الأعضاء ومن قطرات الدمّ. ضوء منذور للموت ومنذور للهمّ. ضوء أعمى مخنوق الصّوت. ضوء مقدود من ديدان الأرض ومن زهرات السمّ. ضوء صدئ ملقى منذ البدء بوجه الغمر. 

    وجاء الصّوت.

"لا اللّيلُ ليلي،

لا الهواءُ هوائي،

لا الجنُّ خبّأ ناره بسمائي.

يحيا أبو تمّام في لغتي التّي شطآنها تمتدّ

نحو أبي العلاء.

لكنّني، ونوّار الكلام يحيط بي،     

أبدو كسين السمّ وسط الماء.

لا وجهُ هند غايتي،

لا صدرُ دعد مرفئي،

لا روحُ أسماء بليلي النّائي.

أنا فضّة الأسماء،

برق سلامها،

فيروزها المنثور في الآلاء.

أنا عشبة الخلد التّي لم تستطع كفّ الرّدى

إنباتها بسمائي.

لي شمس،

وأجنحتي الظّلام،

وألف عنقاء معي تمشي وتنهض في ردائي.

لن يستطيع اللّيل غلق نوافذي.

فنوافذي مسقوفة بأصابع الشّعراء.

أبني وأكشف في القصائد عالما،

في ضوئه،

تتلعّب الأفعال بالأسماء.

       *

لا الأرض أرضي،

لا السّماء سمائي،

يحيا دم العنقاء في أحشائي.

المستحيل أنا علّمته أن يستحيل،

وأن يمهّد بالرّؤى صحرائي.

ويقول للدّنيا استعدّي كي نرى،

 ما لا يرى،

في هذه الظّلماء.

قولي أحبّك كي أصير سحابة،

أو نجمة،

أو آية في سورة الشّعراء.

قولي أحبّك كي تسافر فكرتي،

في الضّوء،

رغم الدّاء والأعداء.

قولي أحبّك كي تصير أصابعي شمسا،

وتشرق فوق كلّ سماء.

قولي أحبّك كي أكون،

وكي تكوني،

وكي يظلّ الضّوء في الأنحاء.

قولي أحبّك كي تمدّ الرّاء نحوي عطرها،

ويمدّني بالضّوء حرف الباء".

 

 
  المحتوى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

يسمح بإعادة النّشر شرط الإشارة إلى المصدر ©
  الزوّار
  للاتّصال بصاحب الموقع
يمكن الأتّصال بالشّاعر في الوقت الحالي على الرّقم الهاتفي 21623400372+
saminasr1234@yahoo.fr أو على البريد الالكتروني
أو مراسلته عبر البريد العادي على العنوان التالي 1 نهج هولاندة حمّام سوسة الجمهورية التّونسيّة
Aujourd'hui sont déjà 4 visiteurs (5 hits) Ici!
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement